لا أنسى تلك
الرسالة التي وردتني "تم تعينك في المنطقة الشرقية " فرحت كثيرا
بالوظيفة بعدها وجهت معلم في الخفجي.
تذكرت حينها تلك الرؤيا التي رأيت فيها أني
أنزع الثنايا خلعت اﻷول بصعوبة بالغة والدم عالق به ونزعت اﻵخر بسهولة وفيه دم
ألقيتها على مسامع معبر فقال أبشر بالوظيفة وستجد شدة في السنة اﻷولى والثانية،
واﻷولى أشد وبالفعل وجدت ذلك قلت له ما الرابط بين الوظيفة والأسنان قال اﻷسنان
تأكل بها رزقك والوظيفة رزق.
مكثت سنتين في الخفجي وبعدها ولله الحمد انكشفت الغمة
بتعيني في الرياض وخرجت من سجن الغربة الكبير.
ما أسرع عجلة اﻷيام انقضت بحلوها
ومرها (وكأننا يا بدر ما رحنا ولا جينا) كما يقول المثل، ( وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) مرة كالحلم المزعج والكابوس المخيف.
الغربة فاجعة يتم إدراكها على مراحل في بداية اﻷمر أخذتها كأنني في نزهة ومع مرور
اﻷيام تجرعت مرارتها وعلقمها، فالغربة نار لا يحسها إلا من اكتوى بناره اعذروني
سأبث مشاعري وأحاسيسي فقد عانيت وقاسيت آلامها... فللغربة سياط تركت آثارها على
جسدي وروحي.. حقيقة تصبح اﻷشياء لا طعم لها ولا لون ولا رائحة ...غيرت نظرتي تجاه
الحياة وأخرجت الشيب في صنادح رأسي.
البعد يلهب الحشى ويدمي المقل يجسد هذا
المفهوم ويؤكد صحته؟! لا تكاد تخلو أحاديث الطيور المهاجرة عن النقل وإمكانيته
" كم رغبة وضعت؟ ترتيبك ؟" وكل يتخرص ويتكلم بالظن تستطيع تنقل لا يمكن
أن تنقل وهكذا دواليك معلم ارتفع ضغطه زرته في المستشفى بسبب عدم نقله.. بات الخوف
يعشش في رؤوسنا من البقاء في الخفجي.
مما يبعث اﻷمل في النفوس ؛ الاستقالات،
المتقاعدون، فتح مدارس جديدة، الوفيات، تحول عدد من المعلمين إلى إداريين، إنهاء
التعاقد مع المتعاقدين، توظيف الأعداد الكبيرة من المعلمين، قبل عذر أهل اﻷعذار
بحيث ينقل على الرغبة اﻷولى، عملية لم الشمل بين اﻷزواج.
كل إنسان له تجربة مع
الغربة وهي بدرجات متفاوتة وفقا للارتياح النفسي للشخص والمدة التي قضاها والمسافة
والرفقة وباختلاف الظروف والبيئة التي يعيشها.
وأنا هنا أسجل انطباعاتي وما تمليه
علي ذاكرتي. سألني عدة أشخاص عن غربتي؟ فأجيبهم قائلا: السفر قطعة من العذاب والله
قرن بين قتل النفس والخروج من الديار ( أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ
اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم) وفي الحديث جعلت الغربة عذاب -الزاني غير المحصن جلد
100 وتغريب عام- وكثيرا ما أقول (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا).
فراق الأهل واﻷم
خاصة يحدث في النفس جراحات وآهات...بعد المسافة وما فيها من طرق سيئة، جمال،
أمطار، غبار، حوادث سير، ووفيات، إصابات، عطب السيارة، فرقة اﻷصحاب، الحنين
للديار. فالجسم في الغربة والروح هناك حيث هم لدرجة أننا نقول(اللي يسافر لازم
يصير شاعر) لكن للأسف خانني الشعر فعرفت أنه ليس مني ولست منه للأسف بعض المعلمين
لما ابتعد عن مكان إقامته هدم لحيته وآخر التحق برفقاء السوء أحاطوا به إحاطة السوار
بالمعصم عفا الله عنا وعنهم.
مما ضاعف جرحي تعامل مديري القاسي معي؛ لا يحمل أدنى
علامات الاهتمام، ونصابي العالي <فرفقا بالغرباء يا مدراء> انتقلت
إلى مدير آخر فوجدت الاستقبال والترحيب والتوديع والنظرات التفاؤلية زاد من
معنويات وشحذ نفسيتي بترياق اﻷمل.
زرت أهلي وترددت عليهم كثيرا جلست بينهم منصتا
استمع لضوضاء اﻷطفال وأحاديث اﻷهل الجانبية فأطلقت سراح دموعي التي احتبستها طويلا
وإني ﻷهوى النوم في غير حينه// لعل لقاء في المنام يكون
فيجمل بالمغترب / أن يصبر
ومن يتصبر يصبره الله وأن يتحلى بكثرة السجود وعليه أن يستعين بالله فهو نعم
المولى ونعم النصير.
يقال أن من أسباب تشتيت المعلمين على البلدان نقل ثقافات،
انعاش اقتصاد القرى، وتفرغ المعلم لمادة [مما سلاني في غربتي] مصري اشتكيت إليه
ألم الغربة فقال: "ماذا أقول أنا". وقوله تعالى : (وَمَن يُهَاجِرْ فِي
سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة).ً وقول القائل :
واﻷسد لولا فراق اﻷرض ما افترست// والسهم لولا فراق القوس لم يصب
وقد انتفع بعضهم من
اﻷعمال اﻹضافية: معلم ليلي، معلم حلقة، إمام مسجد، خطابة، عمل في الجهات الخيرية،
أكمل دراسته، شراء وبيع أراضي، أناس فاعلون تركوا بصماتهم الطيبة على المدرسة
والحي والمنطقة.
وللغربة فوائد متعددة: الاعتماد على النفس في كثير من اﻷشياء ،
طبخ، تنظيف، الالتزام بالمواعيد، معرفة قيمة اﻷهل، التحكم بالعواطف، تعطي المرء
وقتا كافيا للتفكير في أمره وشأنه، التفرغ لطلب العلم، التعرف على عادات وتقاليد
جديدة، التركيز على جوانب القصور، استشعار المسؤولية.
{تعلمت احترام المغتربين في
بلادنا} وأحسست بمعاناتهم -جرب أن تسعد أي عامل-. وصيتي ابتسم لتخفف ألم
الغربة واستمتع بنشاط رياضي يلهيك، استثمر واستغل وقتك بشكل جيد.
ومما خفف غربتي
اتصال أخي خليفة <تبي شيء يا أخوي>،
مهاتفة صديقي♡ياخي فاقدك ♡، رسالة من محب تعبر عن
الاشتياق لها في النفس الكثير والكثير.
خاصة من قطع الفيافي للزيارة وعلى رأسهم
أخي أحمد ، أو يسأل متى عودتك لألتقي بك.
ومما من الله به علي الرفيق الموافق
الحبيب المربي محمد أبوخليل 《الرفيق قبل الطريق》 مقولة لم أدرك معناها وصدقها حتى كانت رفقتك في
الغربة فكانت متعة وعلما وترفيها وسعادة.
تحياتي وسلامي إلى جميع الزملاء الذين
رافقتهم وزاملتهم
سعود محمد البديع 1435/11/6 يوم الاثنين ليلا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.